تشير التقارير الإعلامية إلى مبادرة أو خطة سلام صينية تتكون من 12 بنداً لإنهاء الأزمة الأوكرانية، حيث أكدت مجلة “نيوزويك” الأمريكية أن الخطة تتضمن رفع العقوبات عن روسيا وتدعم سيادة كل من روسيا وأوكرانيا وسلامة المنشآت النووية وغير ذلك من بنود. التساؤل الأهم في هذا الإطار يتعلق بفرص نجاح هذه الخطة، وهنا يمكن الإشارة إلى عوامل عدة أولها مدى تقبل الغرب للخطة الصينية بغض النظر عن مضمونها ولو كأساس للحوار، وهنا يمكن القول بأن من الصعب القطع بإمكانية قبول الولايات المتحدة ـ تحديداً ـ لمقترح صيني بشأن الأزمة الأوكرانية ليس فقط لأن واشنطن تتشكك في وجود دعم صيني لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، ولذا قد تعتبرها طرفاً غير مؤهل للقيام بدور الوساطة، ولكن أيضاً لأن ما تسرب عن الخطة الصينية ينطلق من رفع العقوبات الغربية، التي فرضتها الولايات المتحدة ونحو 37 من حلفائها على روسيا في أعقاب الأزمة، والمسألة هنا لا تتصل بعقوبات روسيا فقط لأن واشنطن سترى في المقترح الصيني خطوة باتجاه نجاح الصين في فرض رؤيتها الذاتية الخاصة بمسألة العقوبات أحادية الجانب، والتي لم تصدر بقرار أممي، بشكل عام، الأمر الذي يصب في خانة تعزيز الثقل الإستراتيجي الصيني دولياً ويفتح الباب أمام تقويض هذه الآلية التي يعتمد عليها الغرب كثيراً في معالجة الكثير من الملفات مثل روسيا وإيران وكوريا الشمالية وغيرها. ثمة نقطة أخرى جدلية من وجهة النظر الغربية وهي تلك المتعلقة بالاكتفاء باحترام الحدود السيادية للدول من دون التطرق إلى مسألة الإنسحاب الروسي من أوكرانيا، وهو بند يتماهى مع ثوابت السياسة الخارجية الصينية القائمة على إحترام سيادة الدول، ولكنه يتلاقى كذلك مع موقف روسيا الذي يعتبر أن جزءاً كبيراً من أوكرانيا يندرج ضمن الحدود السيادية الروسية، وقد ضمت روسيا رسمياً بالفعل جزءاً من هذه الأراضي لسيادتها حتى وإن لم يعترف الغرب بذلك.
بشكل عام، لا يعتبر المقترح الصيني الأول من نوعه في هذا الشأن، فهناك مقترح قدمه فولوديميرزيلينسكي الرئيس الأوكراني، ولم يلق أي تجاوب روسي، كونه يتضمن إستعادة جميع الأراضي الأوكرانية والإنسحاب الكامل للقوات الروسية، وهناك أيضاً مقترحات برازيلية قدمها الرئيس لولا دا سيلفا وأكدت روسيا على لسان ميخائيل غالوزين نائب وزير الخارجية أنها تدرسها، لكن من الواضح أن موسكو تتمسك بمسألة “تطورات الأوضاع على الأرض”، مايشير إلى تمسك مبدئي بالأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها، بحيث يفترض أن يكون هذا التمسك بشكل دائم، أو يخضع لاحقاً لمساومات وتنازلات متبادلة في إطار صفقة يتم عقدها مع الغرب.
روسيا أيضاً تتفاعل مع الوسطاء الذين لم يثبت إنحيازهم للغرب في أزمة أوكرانيا، وهذا بديهي، لأن الغرب يتعامل بالمنطق ذاته، وبغض النظر عن فاعلية هذه المبادرات والمقترحات فإنها يمكن أن تمثل بدايات مهمة للبحث عن مخارج من الأزمة التي إنقضى عامها الأول من دون أفق واضح للنهاية. وبالتالي فإن جهود القوى والأطراف الدولية على صعيد البحث عن تسوية يمكن أن تكون طوق إنقاذ للطرفين معاً، لأن الجميع يدرك أن الحرب لابد لها من نهاية وأن رهان أي طرف على إستنزاف قوى وموارد الآخر لن يحقق أهدافه المتوقعة، لأن الطرفين ـ روسيا والدول الغربية الداعمة لأوكرانيا ـ يتحملان موارد هائلة لإستمرارالصراع، ورغم وجود توجه لدى الطرفين لتحقيق إنتصار عسكري ـ حاسم أو تكتيكي ـ فإنهما يدركان كذلك أن الجلوس على مائدة التفاوض آت لامحالة إن آجلا أو عاجلاً، وبالتالي فإن المبادرات والمقترحات سواء جاءت من الصين أو البرازيل أو غيرهما تمثل جهداً مهماً يدفع باتجاه البحث عن تسويات للأزمة.
هذه الحرب التي يدفع الكثيرون حول العالم ثمنها، لا تقتصر خسائرها على طرف دون الآخر، فلو افترضنا أن روسيا حققت انتصاراً عسكرياً فإن الغرب سيواجه مرحلة إستراتيجية بالغة الصعوبة في تاريخه الحديث، ولكن روسيا أيضاً لن تبقى آمنة ولا مستقرة اقتصادياً بالأخص. ولو أن أوكرانيا نجحت ـ بالوكالة ـ في هزيمة روسيا عسكرياً فلن تكمل مسيرتها كدولة آمنة مستقرة ولن تعود لخارطة العالم كما كانت قبل الحرب اقتصاديا وسياسياً وصناعياً قبل سنوات وربما عقود، فضلاً عن أن الغرب سيظل يعاني جراء الفاتورة الباهظة بهذه الحرب.
السيناريو الأسوأ في هذه الأزمة أن يستمر الصراع ـ رغم الخسائر ـ بالنظر إلى عدم مقدرة أي طرف على تحقيق نصر عسكري كامل على الآخر، وهو إحتمال قائم بنسبة ليست هينّة لأن الغرب يبدي تصميماً متزايداً على إلحاق العار بالجيش الروسي، الذي لن يقبل بالمقابل أي إنكسار أو حتى هزيمة تكتيكية على غرار ماحدث للجيش السوفيتي في أفغانستان، حتى وإن تطلب الأمر اللجوء إلى أسلحة دمار شامل، وهذا كله يؤكد أهمية مواصلة القوى الدولية والإقليمية بذل الجهود وتنسيقها من أجل الضغط على طرفي الصراع للقبول بالجلوس على مائدة التفاوض بحثاً عن حل لأزمة معقدة لا تلوح لها في الأفق نهاية وشيكة.