عالم ما بعد الغرب
بقلم د. سالم الكتبي
مفهوم “عالم مابعد الغرب “ليس عابراً ولا طارئاً على الأدبيات السياسية، ولكنه ظهر بقوة في ساحات النقاش السياسي النخبوي على الأقل، منذ سنوات بعد أن ورد على لسان سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي في مؤتمر الأمن العالمي بميونيخ في فبراير عام 2107، حين طالب بنظام دولي تعددي عادل لا يخضع لهيمنة الغرب ونفوذه. ورغم أن المفهوم قد اختفى من صدارة النقاش السياسي، لكنه ظل في مخيلة الخبراء والمتخصصين، باعتبار أن صراع القوة والنفوذ المحتدم بين الصين والولايات المتحدة، سينتهي في مرحلة ما إلى تحول كامل في موازين القوى الإستراتيجية، وإعادة هيكلة للنظام العالمي القائم، الذي ظل يتمحور حول القيادة الأمريكية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق حتى لاحت في الأفق ملامح زعزعة قواعد هذا النظام في عام 2020 بتفشي وباء “كورونا” وتكاثر الحديث عن نظام ما بعد الوباء، إثر تراجع التأثير الأمريكي لمصلحة دور الصين التي نجحت في استغلال الفرصة وإظهار شخصيتها القيادية العالمية.
لاشك أن مراحل التحول في النظام العالمي عبر التاريخ لم تحدث في غضون سنوات قلائل، كما أن من الصعب حسم النقاش حول عنصر الحسم في هذا الصراع، وهل هي للقوة الاقتصادية التي تتمحور حولها معظم التوقعات التي ترشح الصين لقيادة العالم بحكم تعاظم قوتها الاقتصادية بوتيرة متسارعة، أم للقوة التكنولوجية والمعرفية، وهي مسألة لا تنفك عن القوة الاقتصادية، أم للقوة العسكرية، حيث لا تزال الولايات المتحدة تجلس على مركز القيادة عسكرياً، ولكن في جميع الأحوال تبدو العودة لفكرة القوة الشاملة المخرج المناسب من هذا النقاش، وهو ما يغذي التوقعات بأن المرحلة الانتقالية للنظام العالمي ستطول نسبياً وقد تستغرق عقداً او عقدين من الزمن، بالنظر إلى تداخل دور وحدود تأثير عوامل القوة والمكانة بين المتنافسين الرئيسيين على مقعد قيادة النظام العالمي.
فكرة النظام العالمي متعدد الرؤوس أو الأقطاب هي فكرة مثالية إلى حد كبير، ويصعب القبول بها في ظل التجارب المعاصرة، حيث يصعب أن تقبل قوة عظمى مهيمنة كالولايات المتحدة بأن تكون على قدم المساواة مع قوة منافسة أخرى، ناهيك عن أن تجربة التعددية في صناعة القرار في مؤسسات دولية مجلس الأمن قد أثبتت فشلها تماماً، وأكدت انها مرادفة للفوضى وضعف آليات العمل الدولي الفاعل. ولكن التعددية قد تكون حلاً وسطاً يمر عبر مرحلة إنتقالية تنتهي باعتلاء قوة ما قمة هرم السلطة والنفوذ في النظام العالمي، مثلما حدث خلال الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، حيث مثلت الثنائية القطبية مرحلة انتقالية في النظام العالمي، وهو ما يتوقع البعض تكراره في مراحل لاحقة بقيام نظام ثنائي القطبية تتقاسم فيه السلطة والنفوذ الولايات المتحدة والصين، ويكون الإقتصاد والتجارة فيه محور الصراع الشرس والاستقطاب الحاد وليس الأيديولوجيات كما كان الحال إبان حقبة الحرب الباردة.
واقع الامر أن صعود الصين القوي لا ينبغي أن يصرف الأنظار عن عوامل أخرى ستؤثر حتماً في مستقبل العالم، وفي مقدمتها صعود قوى أخرى منافسة مثل الهند، وروسيا بدرجة ما تتوقف على مآلات الصراع الدائر حول أوكرانيا وسيناريو نهاية هذا الصراع، كما لا ينبغي كذلك غض الطرف عن ارتهان تشكل النظام العالمي القادم بالتحدي التايواني وكيف للصين أن تديره وتخرج بأقل الخسائر، وكيف تتفادى الزج بها في أتون صراع استنزافي لقواها وقدراتها.
بلاشك فإن الحقيقة الواحدة المؤكدة في عالم اليوم أننا بصدد نظام عالمي بلا قيادة، وأن مقعد قيادة النظام يعاني فراغاً يفسر الكثير من الأزمات التي تعاني منها مناطق ودول عدة، وانه لا توجد دولة قوية بما يكفي لقيادة العالم كما كان حال الولايات المتحدة قبل عقدين من الزمن على سبيل المثال، والحقيقة الأخرى أن مستقبل النظام العالمي سيتشكل إلى حد كبير من خلال نتائج الصراع في المحيطين الهندي والهادي، حيث يتمحور الصراع الجيواستراتيجي المتصاعد بين الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية والصين من ناحية ثانية.
منظوري الشخصي أن من الصعب القفز إلى استنتاجات دقيقة بشأن ملامح المرحلة المقبلة في النظام العالمي ما لم تتضح نهاية الحرب الدائرة في أوكرانيا، لأنها ستضع الكثير من الحروف على المستقبل، ولأن الحرب تبدو بعيدة عن نهايتها، ولأن الصراع هناك قابل للتحول في أي وقت، لاسيما في ظل إصرار الغرب على إلحاق العار والاذلال بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتهديد الأخير باللجوء إلى السلاح النووي، وفوق هذا وذاك التعرف إلى طبيعة موقف الصين التي تعاهد رئيسها على تحالف بلا حدود مع روسيا في بدايات الأزمة.
علينا أن نتوقف كثيراً عند قراءة بعض المؤشرات، وأهمها نتائج الحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين، وهي الحرب التي ستسهم نتائجها إلى حد كبير في توجيه بوصلة عالم مابعد أوكرانيا، وهل سيكون عالماً خالياً من الغرب أم سيبقى الغرب شريكاً فيه، وما هو دور تكتلات مهمة مثل مجموعة “بريكس” وغيرها في إدارة شؤون العالم وتحديد بوصلة الاتجاهات الإستراتيجية خلال العقود والسنوات المقبلة.
الواقع يقول أن التعددية تتسلل إلى المشهد الدولي تدريجياً، فالعالم لم يعد يتمحور حول القيادة الأمريكية، بل هناك توجهات متنامية، لاسيما في إفريقيا والشرق الأوسط، نحو الصين وروسيا، وهناك بوادر تفكك في الكتلة الأوروبية، التي يصعب ان تخرج من حرب أوكرانيا كما دخلتها، والأرجح أنها ستشهد واقعاً جيواستراتيجياً جديداً يتماشي مع ما تؤول إليه الأمور في هذه الحرب المفصلية تاريخياً.
الغضب الأمريكي حيال المملكة العربية السعودية على خلفية قرار “أوبك+”بشأن خفض إنتاج النفط، وسحب البساط من تحت أقدام النفوذ الغربي في دول عدة بالقارة الأفريقية لمصلحة الصين وروسيا، كلها عوامل تعكس تغيرات متسارعة في المشهد العالمي، فلا أحد كان يتوقع أن ترفع أعلام روسيا في بوركينا فاسو ومالي قبل أعوام، ولا أحد كان يتوقع أن ينقلب المشهد الطاقوي العالمي باتجاه إحياء عصر النفط وإطالة أمد استخدامه بعد أن شارك الكثيرون في تشييع جنازته والتبشير بعض جديد للطاقات الجديدة، وإذ بالنفط يعود متحكماً بدفة الصراع الاستراتيجي.
الأشهر والسنوات المقبلة حبلى بالأحداث والتغيرات المتسارعة، التي يصعب توقع الكثير منها، ولكن المؤكد في ذلك كله أن العالم يمضي في اتجاه مغاير لكل ما روجت له الأدبيات السياسية بشأن العولمة والتجارة الحرة وغير ذلك، ويرتبط بذلك إنهيار نظريات شهيرة مثل “نهاية التاريخ” التي أطلقها الأكاديمي الأمريكي فرانسيس فوكوياما عام 1989، وبشّر فيها بانتصار نهائي للقيم الليبرالية الغربية، وبالمثل أيضاً “صراع الحضارات” التي أطلقها صمويل هنتجتون، التي تروج لنشوب صراع أساسه الاختلاف الحضاري والهوياتي والثقافي.