عندما يسافر الرجال.
محسن الأكرمين.
كان من متعته أن يسافر عبر القطار. لم يكن يفاضل بين وسائل النقل، ولكنه كان يتجنب ضجيج محطات شغب الحافلات. كان يكره تكاثف المسافرين، وتكدسهم مثل دواخل علب السردين الرخيصة. وضعه النفسي القلق بات أشبه بمحاصرة ثعلب بعد خروجه من مجزرة خمّ الدجاج، بعد أن تم ضبط عناصر الجريمة بالبينة والدليل. في كل أسفاره الطويلة طيلة مدة اشتغاله، كان يغلب عليه الصمت، وتأمل التجهم في الفوارق الاجتماعية. وكان يحب ملاعبة أحلام السفر، فقد كانت كل أحلامه يمكن أن تستيقظ في أية لحظة على أرض الواقع. كان يحس أنه منهك القوى وهو يتجه إلى موطنه وسط تلك الغابة المتشابكة، والتي تجول الأشباح بحرية بين أشجارها .
في آخر محطة نزوله ، كان ينتظره بزوغ الفجر. وفي أول خطوة سقطت عيناه على نور النجم الذي لا يزداد نورا ولا ينضب ولا يخفت على مرّ الأزمنة. من بساطة تفكيره الشعبي وهو يحمل حقيبته القديمة تأبطا، اعتبر خروجه من محطة النهاية كالبداية في العودة إلى الذكريات التي تجيء.
قبل الوصول إلى شكل الطريق غير المعبدة ولا المريحة في المشي. نظر إلى السماء برهة ، فوجد أن الشمس قد أشرقت باكرا وهي حمراء الأشعة. حينها تذكر جده وهو يقول:” الليلة أزهقت دماء كثيرة، وولدت أنفس جديدة”. من شدة تطيره من مشهد الشمس الحمراء حسب أن الموت يتبعه بالتوازي مع الحياة، وأن الحرية تكمن في مواصلة الطريق للخروج نحو موطنه. لكنه ثار قولا :” لن أترك أبدا اتجاهاتي، لن أترك أبدا أفكاري، حتى أصل إلى بيت الولادة الأولى”.
إنه اليوم يبحر بالبدايات نحو بر الأراضي الخالدات في ذكرياتها الصغرى. يسير وحيدا بين الأشجار في سرب الوحش وموطن الأشباح، فهو يعتقد أن ” الحمر الوحشية تركت لكي تهلك ، وأن الأحصنة تركت لكي تهرب”. كان يحس بالرعب وكأنه ينحدر من النار نحو الماء البارد، لكنه كان ينمي من قوته وهو يردد ” انتهى زمن الجن… اتركني وحدي أيها الإبليس المتغطرس”. في وسط الغابة اكتشف مشاهد بين أغصان شجرة اللحاء، بومة متخفية بريش منفوش. وهو يسير متأنيا كان يتابع سكناتها وحركاتها، والبومة لا تحرك ساكنا، فهي تعلم أنه واحد من المكان والزمن المتغير. تذكر عندها أن نساء القبيلة تعتبر البوم ندير شؤم . لكنه أخيرا تتحرر من سحر البوم، وغادر مملكة هذا الأخير.
يقع بيت الأسرة القديم في شق الغابة الأيمن قرب منحدر السفح ، مطلا على البحيرة التي تبدو من تمثلات الرؤية وجود وجوه ميتة تحت الماء الشفاف.
كان الدرب الغابوي لا زال طويلا بمقدار طفيف. كل المسالك ليست معقدة بالعقبات، بل مركبة وتتفرع في كل الاتجاهات. كان يسلك طريقه وفق إحساس الصغر حين غادر القرية يوم توفي أباه وحضنه عمه تربية وتنشئة بالمدينة. مطالع القرية تبدو غير بعيدة بالتصغير، لكنه رأى عجوزا متقاعس الحركة، ومتخف وسط كومة تبن غير مرتب، ومحاط بخرفان عجاف.
في قرار نفسه ردد” يا لها من مأساة لا نمتلك حلولا لها. من يدري بما يحدث العجوز نفسه !!! إنه يزداد ثقلا يوما بعد يوم، ويرهق تنبيهات عقله، وهو يحرس خرفان أنصبة الثعلب. بقي يسافر راجلا للعودة، وهو الآن يربح الزحف و الركض نحو بداية المنشأ، كان يسحب حبه للديار والمكان والقبيلة كما يسحب السم من جسم الملسوع. على أطراف المسلك الضيق وقف على زهرة شقائق النعمان التي كانت تنمو على قبور الأجداد، نظر إلى تلك القبول المتقادمة والمتهالكة مثل قرى الهوامش الممتدة في مملكة الفوارق الإجتماعية. أيقن أنها قبور مخلفات أموات لم تتبع يوما أنوار المدينة السارقة للحياة، وقد بقى حلمهم في نفس القرية، ثم دفنت القرية أسرارهم مثل دفن الأجساد. أحس أنهم لم يفكروا قطا في الهرب من الغباء والعوز والطاعة لركوب التحدي.
في كثافة الغابة أخذه الظلام الخفيف، وشرد ذهنه خارج الزمان و المكان. رأى أن الحرب المتسخة بلا هوادة تتسع في كل المجالات الحياتية، وأنها تعطي الوطن كله للظلام. رأى الأشباح المجنحة تتبنى شعوذة السياسة و التغرير بالإنسان، رأى شوهة الجن الأشرار من الإنس تكشف خدعها المتدنية. رأى أجداده يركضون وسياط الأسياد تلحف أجسادهم باللدغ الدامي وبلا رحمة. أي جنون قاده إلى هذا الصف الخامل من المساكن المهملة التي تنغلق مثل قفص أفراخ الطير بلا قيم الحرية !!!
أصبح الهواء كثيفا جدا في الغابة والغضب حاضر، لكن البوابة السوداء الأخيرة أصبحت قريبة من نور الديار. إنه أخيرا يسير في دوائر مغلقة، إلى المكان الوحيد الذي يود الوصول إليه ولم تصله رجلاه منذ صغر عمره. أحس أنه فاشل في السباقات القصيرة ولكنه يربح الطويلة منها دائما. من بعيد وصلت نسائم حضوره قرية الأم والفصيلة الدموية. ورغم أن الأم شاخت سنا، فقد قالت لمن في البيت:إني متيقنة أن يوما سيأتي إلي مسافرا لأجلي فقط. تنشقت الأم هواء نقيا بجمال الطبيعة مرة ثانية، فوجدته يرتمي في حضنها باكيا فرحا.