ماذا بعد التهديد النووي الروسي؟

بقلم

د. سالم الكتبي

جاءت تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام سلاح نووي في حال سعت أوكرانيا إلى عرقلة تنفيذ خطط ضم الأراضي التي سيطر عليها الجيش الروسي في جنوب وشرق أوكرانيا، لتنقل الأزمة المحتدمة إلى مربع أكثر خطورة من ذي قبل، وتنذر العالم أجمع بإمكانية حدوث مواجهة نووية.

سيناريو الحرب النووية لم يعد بعد الآن مجرد فرضية مستبعدة، بل بات من الضروري أخذها بالحسبان عند تقييم مسارات الأزمة الأوكرانية، ومن الخطأ تماماً ـ برأيي ـ تجاهل هذا السيناريو، بغض النظر عن أرجحيته، لأن بوتين لم يعد يلوح فقط بل بات يشعر بالقلق الشديد من احتمالات الهزيمة العسكرية، التي لا يمكن له أن يقبلها بأي حال من الأحوال، ولن يتوانى عن اللجوء لأي سلاح مهما كانت قدرته التدميرية، وعواقب قراره، في حال إستشعر تعرض قواته لهزيمة مؤكدة على الأراضي الأوكرانية، فضلاً عن وجود قناعة لدى موسكو بإمكانية اللجوء للسلاح النووي، وهو ما أكدته التصريحات القائلة بأن العقيدة النووية الروسية تجيز إستخدام الأسلحة النووية عندما يتعرض أمن روسيا القومي لتهديد وجودي يستدعي هذا الإستخدام، فضلاً عن تأكيد رئيس بيلاروسيا الكسندر لوكاشينكو بأن العالم لم يكن يوماً أقرب الي الحرب النووية مثلما هو حاصل الآن.

هناك عوامل أخرى تغذي القلق من نشوب مواجهة نووية، منها غياب الهدوء والتريث والثبات الإنفعالي عن صناعة القرار الروسي، الذي يبدو في حالة من العصبية والتشنج في كثير من الأحيان، ولاسيما عقب الأنباء عن نجاح الهجوم العسكري الأوكراني المضاد وتراجع قوات الجيش الروسي، حيث يصدر الكرملين قرارات إنفعالية متوالية بشكل يعكس إرتفاع مستوى الغضب وفقدان السيطرة تدريجياً على القرار.

بوتين رجل الإستخبارات الذي كان يتباهي الكثيرين بدهائه، ينصاع للإستفزازات الغربية بكل سهولة، ولا يستطيع ضبط النفس بحيث يتفادي السقوط في فخ التورط في توسيع نطاق الصراع الأوكراني، ولا يمتلك المرونة الدبلوماسية التي تتيح له الكر والفر في إدارة هذه الأزمة المعقدة بحيث يحقق لبلاده القدر الأكبر من المكاسب الإستراتيجية، كما تفعل الصين تماماً في إدارة أزمة تايوان، وهذا عائد بشكل كبير إلى مخزون الحكمة الصيني التاريخي الذي ينهل منه القادة الصينيين ويتعلمون كيف يديرون الأزمات الكبرى ويخرجون منها بأقل الخسائر. بوتين، بطبيعته الصارمة، لا يمضي سوى باتجاه واحد، ولا يترك المجال لبقية المسؤولين الروس للمناورة، ولاسيما أن لديه أحد أكثر الدبلوماسيين دهاء في العالم، وهو وزير الخارجية لافروف، الذي لا يلعب دوراً مؤثراً كما هو منتظر منه في تحسين موقف بلاده في هذه الأزمة التي تحتاج خبرته الدبلوماسية العريضة.

قرار الرئيس بوتين بالتعبئة الجزئية واستدعاء نحو ثلاثمائة ألف من قوات الإحتياط يغذي حماس القادة الأطلسيين لإلحاق “هزيمة مذلة”بروسيا في أوكرانيا وليس العكس كما يتوقع، فتعزيز الحشد العسكري الروسي يمثل في الحقيقة إعترافاً ضمنياً ولو بوجود قصور في أداء الجيش الروسي في أوكرانيا، ناهيك عن التأكيدات القائلة بتراجعه واندحاره في مدن أوكرانية عدة، فهناك تقارير موضوعية تتحدث عن ضعف أداء القوات الجوية الروسية، وأن فشلها في فرض هيمنتها الجوية يمثل أحد أسباب الفشل الحاصل في حسم الحرب لمصلحة روسيا حتى الآن، حيث أخفقت القوات الجوية الروسية في السيطرة على المجال الجوي الأوكراني أو إصابة الأهداف رغم إستخدامها طائرات ومقاتلات عالية التقنية، وهذا يعني أنه ـ بمرور الوقت ـ سيتم إستنفاد المخزونات الروسية من الطائرات المتقدمة، وبالتالي يتحتم على الكرملين مواجهة تحدي القدرة على خوض حرب طويلة الأمد في ظل هذه الخسائر العسكرية، وهذا بدوره يرتبط بالقدرة على توفير الموارد اللازمة ولاسيما على الصعيد البشري، ناهيك عن الشكوك التي تحيط بالمخزون الإستراتيجي من الأسلحة والذخائر الروسية، وهذا كله يفسر جزئياً عصبية التهديد الخاص باللجوء إلى إنتقام نووي في حال عرقلة خطط روسيا في أوكرانيا.

ما أعتقده في أن المرحلة المقبلة ميدانياً ستشهد توسعاً في مسرح العمليات القتالي من جانب روسيا من أجل محاولة حسم الحرب لمصلحتها، وفي ظل الظروف الصعبة التي تعانيها معظم دول الإتحاد الأوروبي، والغضب العارم حيال قرار قطع الغاز الروسي عن هذه الدول، يصبح التصعيد والتصعيد المضاد ـ بكافة أشكاله ـ هو السيناريو القادم، لاسيما أن الحرب تحولت من عملية عسكرية محدودة في أوكرانيا إلى حرب مفتوحة اعتبرها رئيس الوزراء الأسباني بيدرو سانشير حرب ضد أوروبا جميعها، فضلاً عن رغبة أمريكية عارمة في إستنزاف روسيا من أجل الحد من قدرتها على دعم الصين في أي مواجهة محتملة بشأن تايوان، فضلاً عن إجهاض مساعي بوتين لتعديل هيكل النظام العالمي القائم وتقويض الهيمنة الأمريكية عليه.